عمر الخطابي سلالة الثورة

عبد القادر الشاوي / جريدة الميدان، العدد 1- يوليوز2006

كلنا يذكر أن الثورة الأولى غادرت إقليمنا الريفي المتاخم للجبال ذات تحالف شرس قضى على أوفاقها في بداية العشرينات من هذا القرن. ضربت الطائرات مضاربنا الأليفة بالغازات السامة، و قتلت ما كان ظاهرا على الأرض قتلا، ثم تقدمت نحو العلامات الخاصة التي كانت من وجوه التحرر فدمرت خطوطها و حطمت شواهدها و شوهت آثارها.
و هكذا التحق الريف الدامي كله بالجغرافية المحجوزة التي كان قد استوى عليها المارشال ليوطي و تركها من بعده لجماعة من الأفاقين العتاة الذين حملوا الاستعمار فوق ظهورهم و راحوا يتبخرون به الأمصار السليبة. الريف جغرافية سليبة دكها الغزاة، و الثوار الذين أماتوا الاستعباد ساروا في موكب الجنازة إلى دار الشهادة، أما بعض الأحياء فقد فروا إلى الجبال القريبة، و منهم من هاموا على وجوههم طلبا للأمان، و لم يبق في تلك الديار، على ما تذكر جميع الأساطير البطولية المروية، إلا الذين أقفلوا عليهم أبواب الذاكرة لكي لا تعود بهم إلى مجد منكسر.
سيغادر ثلاثة من الرجال على الأقل آخر المواقع البؤرية المدمرة:محمد و امحمد و عبد السلام. أخوان متلازمان أخذا حظا محترما من العلم و المعرفة و فنون الكر و الفر، و عمهما الذي يجسد، على نحو ما، استمرار الهبة الريفية من أيام الشيخ أمزيان و بوادر الانعتاق التي اجترحها الريفيون منذ ما قبل " سطوع" قرن الإمبريالية. و لم يكن يبدو على الذاهبين في عرض البحرأنهم أسرى حرب تحريرية ما، و لا كانوا يعرفون الوجهة التي تنتظرهم، و لا كانت عليهم أمارات الاستسلام، فقد تركوا ورائهم وطنا ظنت به النخب أنه قادر على الاستمرار حتى بعد أن كانوا يستعدون لإيجاد حركة بديلة تهتم بالسياسة دون غيرها، و تحكم منطق المساومات دون غيره، و تفاوض دون غيره...أن المقاومة التحريرية المسلحة قد غادرت الجبال إلى غير رجعة، و أنه لن تسمع بعد اليوم اية هبة مزمجرة تخيف الطامعين و تعرقل خططهم في تلك الديار. المرحلة الجديدة في ظنهم، كما قال علال الفاسي نفسه و هو يؤرخ للحركات الاستقلالية، سترفع الراية البيضاء في مقام الراية السوداء التي كانت علما للمقاومين في الجبال.
سينام المغرب الأقصى في سكينة الحركة الوطنية التي حاولت إقناعه بالعمل السياسي السلمي، و ستظهر في نخبه الميالة إلى الدعة و الاستسلام على وسادة من الحرير المهرب من الصين، و ستحاول الجرائد أن تقول باللغة المطلبية ما لم يستطع السلاح أن يوفيه حقه بالعنف.
و في الوقت الذي كانت فيه معركة أنوال قد ألهبت مشاعر الناس بالآمال التحريرية أصبح من المؤكد أن التراجيديا الريفية التي تشكلت في قمة الخذلان ستدخل التاريخ كأسطورة رهيبة لم يسبق للشمال الإفريقي كله أن عاش مثلها. و هكذا يمكن القول أن رسو الباخرة، الأميرال بيير، التي أقلت آل الخطابي إلى جزيرة لاريونيون كان بمعنى ما، مماثلا لإقلاع المغرب كله نحو مجاهل الحماية.
و لو زدنا في هذه المماثلة لقلنا إن الصرخة المدوية التي أطلقها مولود جديد على متن الباخرة في عرض البحر المقابل لجزيرة مدغشقر كانت، بمعنى ما، مماثلة للعويل المفجوع الذي رجعته حناجر الريفيين في وجه الزحف الاستعماري على أجدير.
تعززت السلالة الخطابية عام 1927 بازدياد مولود ذكر إذن. و يمكن اعتبار هذا المولود، بجميع الاستيهامات الممكنة في التأويل، انتقاما تاريخيا و نفسيا و سلاليا من فداحة الانكسار الذي منيت به العائلة و بداية رحلة المتاه و الرمز. و يبدو كما لو أن الوالد عبد السلام، عم عبد الكريم الخطابي و أحد القواد المنكسرين، أراد أن يبعث من نطفته شيئا لم يقدر السلاح على بعثه في المغاربة عندما حرضهم على الثورة.
و لما اختار لمولوده الجديد اسم عمر اختار للتاريخ الآتي سيرة مستوحاة من أوفياء النبوة و ظلالها الراشدية. و سيكون هذا الاختيار، على ما فيه من مفارقة، إيذانا بالاستمرارية، إذ من الحق أن نقول إن نفي آل الخطابي إلى جزيرة لاريونيون ولد في أجيال الزمن المغربي، بعد أحاسيس الأسى و الأسف، عهدا بالاستمرار المختلف.
و هذا هو السر الذي احتفظت به الثورة الريفية إلى يوم الناس هذا: أي أنها كانت ملحمة بطولية ذات بعد تراجيدي، و لكنها قوت من عزائم المناضلين في سبيل التحرير. و الذين ولدوا من صلب آل الخطابي في فترة مدلهمة من التاريخ امتزجت فيها المقاومة بالعنف بالتقتيل بالصمود بالأسى بالنفي بالحنين المحرق إلى الوطن بالعسف و الخسف... يدركون جيدا أن المقاومة تورث عاطفيا و أن فصيلة الدم الواحدة لها في الذوات الأخرى نفس الخصائص الحيوية.
مر محمد بن عبد الكريم الخطابي في معبره التاريخي المقاوم نو الشهادة بأرض تسمى أرض الكنانة. و لكن المرور أصبح مقاما، و أمسى المقام حركة. كانت الثورة الريفية عام 1948 قد استجمعت من حولها كثيرا من الرموز و المراجع، و هكذا أصبحت القاهرة قبلة للتحرر المغاربي المنشود، و مركزا لإدارة كثير من عملية الانعتاق.
و الأهم من ذلك أن عبد الكريم الخطابي صار علما من أعلام الوطن الصامدين في الاستماتة، و من حوله كان الجيل الآخر، الجيل الذي ولد على متن باخرة النفي القسري، يحقق وجوده في إطار مشروع تحرري تسمع له كثير من الأصداء في بقاع مختلفة من المعمور.
هنا سنجد عمر الخطابي، ذلك المولود الذي هربته أمه في بطنها من أجدير على متن باخرة النفي القسري، و قد استوى قامة و ثقافة و تطلعات. و السيرة الشخصية هنا صادقة: فبعد دراسته الأولية في جزيرة لاريونيون إلى جانب أترابه كجاك برجس المحامي الذائع الصيت و ريمون بار الاقتصادي و السياسي الفرنسي المعروف، سينتقل إلى أرض الكنانة على متن نفس باخرة النفي القسري عام 1947 و سيتم هذا الانتقال في ريعان الشباب و الفتوة و الانطلاق على مشارف الثلاثين ربيعا.
و سيتم هذا الانطلاق للتعبير عن مشروع مؤجل لاستمرار المقاومة من حيث تركت حصارها الأبدي على أيدي الغزاة و الطامعين في أجدير. و سيتم هذا الانتقال لكي لا ينتهي إلى اليوم و قد صار الفتى الطامح شيخا ( 73 سنة) لم تزده السنون إلا صلابة و إيمانا و رفعة ذوق و عزة نفس و سكينة حياة.
لكن مسار الانتقال لم يكن معبدا و لا كانت فيه الآلام خفيفة مما قد تحتمله النفس على مضض و لا عاديا أو مقبولا. يجب أن نتكلم عن المسار الشخصي لعمر الخطابي كما لو أنه مسار المقاومة الريفية نفسها من المهد إلى اللحد، أو من الثورة إلى النهاية، أو من الأمل المبجل إلى ديمومة التوق المنشده.
ذلك أن انتقاله إلى اقاهرة صحبة والده و الأسرة الخطابية كلها، و دراسته الجامعية فيها أولا ثم في لوزان و جنيف بين 1957 و 1960 ثانيا، و عودته إلى المغرب بعد الاستقلال، هذا إلى جانب أدواره إلى جانب عبد الكريم بعد التحاقه بمصر و معرفته العميقة بجميع الشخصيات و الوجوه، المصرية و غير المصرية قبل الثورة الناصرية و بعدها، التي كانت تتوافد على الزيارة، سيقوده حتما إلى معترك جديد، معترك المغرب المستقل الذي انفتح فيه المستقبل على الأمل المحجوز، و تحول فيه العمل السياسي إلى ضريبة، و انتقلت فيه جميع المعارك إلى التنافس المحموم على السلطة.
المغرب الذي كان يبدو منذ ثلاثينيات القرن الماضي وادعا في سيرورته النضالية واعدا بالدولة الوطنية المستقلة يحلم فيه المخلصون للنضال الشعبي بغد العدالة و يوم التنمية. سيعود عمر الخطابي إلى المغرب و عمره في مقتبل الشباب، و سينخرط تلقائيا في الخضم الواسع الذي انفتحت عليه المرحلة، أي من تناقض إلى آخر، و من معركة إلى أخرى، و من توجه إلى آخر، و من قمع إلى قمع. بدا للجميع أن البناء أمنية منشودة فإذا به، بعد الفورة الأولى، عقبة. لقد كشرت المصالح والأنانيات عن أنيابها، و ظهر للطامعين في الانفراد بجميع السلط الممكنة أن الجغرافية يمكن أن تحجز في قارورة عطر للتطيب بها عند الضرورة.
لقد استقوت السلطة بعد أن جردت جميع السلط الأخرى من أوهامها. و لذلك فإن جميع الحالمين قد أصيبوا بالإحباط الذي يصاب به الواهمون. و من المؤكد ان عمر الخطابي، هذا الحالم الواهم قد استقر، بعد ذلك، في القنيطرة لأنه لم يجد متسعا لأحلامه في الرباط.
و من المؤكد أيضا أنه أصيب في أحلامه، أي جاء إلى الانكسار الثاني من منفاه بعد أن لم يشهد فوضى الانكسار الأول إلا الحكايات المتواترة عن البطولات الفردية و الجماعية. أما الفرق الوحيد، في جميع الأحوال فهو أن الثورة الريفية المنكسرة التي ينتمي إليها من الناحيتين السلالية و النضالية، قاومت في عنفوان المجابهة، بينما أضحى النضال الديمقراطي يقاوم في مغرب الاستقلال في دائرتي العنف و المساومة.
لقد ولى الزمن الذي كان فيه الوقوف في وجه القوى الاستعمارية الغاشمة جهادا و واجبا لافتداء المغرب الدامي، فأضحى الوقوف في وجه السلطة الوطنية الظالمة المتجبرة حقا و تضحية لتغيير الأوضاع النازفة. و هكذا أضحى عمر الخطابي الذي قد تكون ساورته أوهام المشاركة الإيجابية في بناء الوطن المجيد في مرمى الرياح العاتية التي عصفت بأحلام الستينات. و مع أنه لم يتنم إلى أي حزب سياسي معروف، على كثرة ما تمنى عليه السياسيون الطامحون أن ينتمي إلى وجودهم النضالي، إلا أنه تعرض لمثل ما تعرض له العاملون في ميدان المشروعية الديمقراطية.
و لذلك وجد نفسه ذات ربيع ( مارس 1973) في عذاب " الطائرة" التي "حملت" جميع المعتقلين إلى حتفهم الخاص: فمنهم من أغرق في اليم البحري العاتي، و منهم من سقط في حمى المطاردة، و منهم من اقتلعت أسنانه و أسقي ماء الكريزيل، و منهم من أجلس على القناني الزجاجية غير المسكرة، و منهم من كسروا عموده الفقري، و منهم، بعد كل هذا و ذاك، من اعدم رميا بالرصاص الممزق للصدور. مغرب الظلمات كما يقال اليوم على كل لسان، أو مغرب من لم يكن يقوى في تلك الأيام، بحكم الخيانات و البطش و التواطؤ، على ذكر توتراته و مطامح أهله و ثغرات سياسته و تبذير أمواله و أشكال اغتناء نخبه إلا همسا.
و من المعروف فمن دار المقري إلى درب مولاي الشريف، و من أنفا إلى المركزي، مراد من تربص بعمر الخطابي أن يقع في التهميش المحتم الذي أريد للمرحلة حتى يستحوذ الناهبون على جميع الخيرات المتاحة اقتصاديا و سياسيا و رمزيا في الجغرافية المستباحة. عليك أن ترى عمر الخطابي في مشيته المتهادية. هل تظن من خيلاء أجوف؟.
إنك واهم و دونك تلك الحقيقة التي سار بذكرها العارفون. لقد فككوا عموده الفقري بحثا عن شيء اسمه المقاومة فوجدوا شيئا آخر أبلغ في الدلالة اسمه الشهامة. و يمكن أن نتكلم عن الانتقام الذي رافق جميع الاعتقالات التي صاحبت، ليل نهار، كثيرا من المعاندين.
غير أن الانتقام في حالة عمر الخطابي أريد به في الواقع، عنوة، إجباره على استنكار الأنفة و العزة الريفية. و من النادر أن تجد من يعرف أن وراء العزة الريفية أمجادا خطابية لا يمكن تجاهلها، ، لأن الثورة الريفية، كما يشهد بذلك الباحثون في مجرياتها، كشفت للمغاربة في بداية القرن العشرين أن طريق التحرر يمر عبر العزة الوطنية، و أن استخلاص العزة الوطنية من براثين الحماية يتطلب النهوض بالسلاح في وجه المحتلين.
هذا درس قد يكون وعاه عمر الخطابي و عمل به في جميع الحركات التي أتاها، و انت واجد في كفاحه من أجل الثورة الفلسطينية ذلك البعد التحرري الذي استقاه من المصادر الريفية السلالية، و هو الكفاح الفلسطيني، و هو الذي كان وراء تأسيس الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطيني، و هو الذي قد يكون في أصل وعي النخب الوطنية و اليسارية بأن الثورة الفلسطينية هي مستقبل المغرب...و هكذا.
غير أننا في كل هذا يجب أن نتكلم عن عمر الخطابي كجراح...للمعضلات أيضا: يعرف الجسم و تعلاته معرفة من يحاول علاجه من أدوائه، يدخل إلى الجسم كقصية من خلال الفحص الذي يستقيم به التشخيص و لا يخرج منه إلا إذا وقع فيه على ما يهدد حياته. لقد درس الطب و تخصص فيه و لعله من القلة الجراحة الذين فهموا أن الذات المغربية تحتاج إلى علاج ثوري، و لكنه لم يجعل منه تجارة بل مداواة إنسانية، و عندما فتح عيادته في القنيطرة حولها إلى مزار يقصده كل طالب علاج لمشكلته. و لا يكون الطبيب إلا أنيقا أو لا يكون، لأن معالجة الذات تحتاج إلى أناقة لا تأتي من المهنة بل من الإنسانية المهذبة في الأعماق، بل تأتي من الثقافة الشاملة المتفتحة و المعرفة الواقعية المنقبة و الخلق الحسن و الذوق الموسيقي الرفيع فضلا عن الإيمان...أي إيمان ممكن ذاك الذي به تنشرح القلوب.
إن الذين ينقبون اليوم في ماضينا الحزين، بمنهج أو بغيره، ينسون، في الغالب، أن الثورات المنسحقة لم تخلف وراءها القتلى و الضحايا فقط بل طباعا في النفوس و وقائع حارة و ذكريات قد تنعش التوثب و مبادئ صارمة تتسامى على زمن الموت الذي يلازم الأحداث العابرة. أريد أن أقول إن الثورة الريفية لم تكن عابرة و إن عمر الخطابي و هو ربيب انكسارها قد غدا وارث رموزها الدافعة إلى الحياة

ليست هناك تعليقات: